فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

ومعنى قوله: {عَلَى الْعَالَمِينَ} أي على عالمي زمانهم، في قول أهل التفسير.
وقال الترمذيّ الحكيم أبو عبد الله محمد بن عليّ: جميع الخلق كلهم.
وقيل {عَلَى الْعَالَمِينَ}: على جميع الخلق كلهم إلى يوم الصور، وذلك أن هؤلاء رُسُلٌ وأنبياء فهم صفوة الخلق؛ فأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد جازت مرتبته الاصطفاء لأنه حبيب ورحمة.
قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] فالرسل خلقوا للرحمة، ومحمد صلى الله عليه وسلم خُلق بنفسه رحمةً، فلذلك صار أمانًا للخلق، لمّا بعثه الله أَمِنَ الخلقُ العذاب إلى نفخة الصور.
وسائر الأنبياء لم يحلّوا هذا المحل؛ ولذلك قال عليه السلام: «أنا رحمة مهداة» يخبر أنه بنفسه رحمة للخلق من الله.
وقوله: «مهداة» أي هدية من الله للخلق.
ويقال: اختار آدم بخمسة أشياء: أوّلها أنه خلقه بيده في أحسن صورة بقدرته، والثاني أنه علّمه الأسماء كلها، والثالث أمر الملائكة بأن يسجدوا له، والرابع أسكنه الجنة، والخامس جعله أبا البشر.
واختار نوحًا بخمسة أشياء:
أوّلها أنه جعله أبا البشر؛ لأن الناس كلهم غرِقوا وصار ذريته هم الباقين، والثاني أنه أطال عمره؛ ويقال: طوبى لمن طال عمره وحسن عمله، والثالث أنه استجاب دعاءه على الكافرين والمؤمنين، والرابع أنه حمله على السفينة، والخامس أنه كان أوّل من نسخ الشرائع؛ وكان قبل ذلك لم يحرم تزويج الخالات والعمات.
واختار إبراهيم بخمسة أشياء:
أوّلها أنه جعله أبا الأنبياء؛ لأنه روي أنه خرج من صلبه ألف نبيّ من زمانه إلى زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، والثاني أنه اتخذه خليلًا، والثالث أنه أنجاه من النار، والرابع أنه جعله إمامًا للناس، والخامس أنه ابتلاه بالكلمات فوَفّقَه حتى أتمهن.
ثم قال: {وَآلَ عِمْرَانَ} فإن كان عمران أبا موسى وهارون فإنما اختارهما على العالمين حيث بعث على قومه المَنّ والسلْوَى وذلك لم يكن لأحد من الأنبياء في العالم.
وإن كان أبا مريم فإنه أصطفى له مريم بولادة عيسى بغير أب ولم يكن ذلك لأحد في العالم. والله أعلم. اهـ.

.تفسير الآية رقم (34):

قوله تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)}

.من أقوال المفسرين:

.قال ابن عادل:

قوله: {ذُرِّيَّةَ} في نَصْبها وجهان:
أحدهما: أنها منصوبة على البدل مما قبلها، وفي المُبْدَل منه- على هذا- ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها بدل من {آدَمَ} وما عُطِفَ عليه وهذا إنَّمَا يتأتَّى على قول من يُطْلِق الذُّرِّيَّة على الآباء وعلى الأبناء وإليه ذَهَب جماعةٌ.
قال الجرجاني: الآية توجب أن تكون الآباء ذرية للأبناء والأبناء ذرية للآباء. وجاز ذلك؛ لأنه من ذرأ الخلق، فالأب ذُرِئ منه الولد، والولد ذرئ من الأب.
قال الراغبُ: الذرية يقال للواحد والجمع والأصل والنسل، لقوله تعالى: {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} [يس: 40] أي: آباءهم، ويقال للنساء: الذراريّ.
فعلى هذين القولين صَحَّ جَعْل {ذُرِّيَّةٌ} بدَلًا من {آدم} بما عطف عليه.
قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون بدلًا من {آدم}؛ لأنه ليس بذريته، وهذا ظاهر إن أراد آدَمَ وحده دون مَنْ عُطِف عليه، وإن أراد {آدم} ومَنْ ذُكِرَ معه فيكون المانع عنده عدم جواز إطلاق الذُّرِّيَّة على الآباء.
الثاني- من وجهي البدل- أنها بدل من نُوح ومَنْ عطف عليه، وإليه نحا أبو البقاء.
الثالث: أنها بدل من الآلين- أعني آل إبراهيمَ وآل عمرانَ- وإليه نحا الزمخشريُّ. يريد أن الأولين ذرية واحدة.
الوجه الثاني- من وجهي نصب {ذُرِّيَّةً}- النصب على الحال، تقديره: اصطفاهم حال كونهم بعضهم من بعض، فالعامل فيها اصطفى. وقد تقدم القول في اشتقاق هذه اللفظة.
قوله: {بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} هذه الجملة في موضع نصب، نعتًا لِـ {ذُرِّيَّةً}. اهـ.

.قال الفخر:

في تأويل الآية وجوه:
الأول: ذرية بعضها من بعض في التوحيد والإخلاص والطاعة، ونظيره قوله تعالى: {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ} [التوبة: 67] وذلك بسبب اشتراكهم في النفاق.
والثاني: ذرية بعضها من بعض بمعنى أن غير آدم عليه السلام كانوا متولدين من آدم عليه السلام، ويكون المراد بالذرية من سوى آدم. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قال أبو بكر النقاش: ومعنى قوله: {ذرية بعضها من بعض} أن الأبناء ذرية للآباء، والآباء ذرية للأبناء، كقوله تعالى: {حملنا ذريتهم في الفلك المشحون} [يس: 41].
فجعل الآباء ذرية للأبناء، وإنما جاز ذلك، لأن الذرية مأخوذة من: ذرأ الله الخلق، فسمي الولد للوالد ذرية، لأنه ذرئ منه، وكذلك يجوز أن يقال للأب: ذرية للابن، لأن ابنه ذرئ منه، فالفعل يتصل به من الوجهين.
ومثله {يحبونهم كحُب الله} [البقرة: 165].
فأضاف الحب إلى الله، والمعنى: كحب المؤمن لله، ومثله {ويطعمون الطعام على حبّه} [الدهر: 8].
فأضاف الحب للطعام. اهـ.

.قال الفخر:

قال القفال: المعنى والله سميع لأقوال العباد، عليم بضمائرهم وأفعالهم، وإنما يصطفي من خلقه من يعلم استقامته قولًا وفعلًا، ونظيره قوله تعالى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالته} [الأنعام: 124] وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ في الخيرات وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُواْ لَنَا خاشعين} [الأنبياء: 90] وفيه وجه آخر: وهو أن اليهود كانوا يقولون: نحن من ولد إبراهيم ومن آل عمران، فنحن أبناء الله وأحباؤه، والنصارى كانوا يقولون: المسيح ابن الله، وكان بعضهم عالمًا بأن هذا الكلام باطل، إلا أنه لتطييب قلوب العوام بقي مصرًا عليه، فالله تعالى كأنه يقول: والله سميع لهذه الأقوال الباطلة منكم، عليم بأغراضكم الفاسدة من هذه الأقوال فيجازيكم عليها، فكان أول الآية بيانًا لشرف الأنبياء والرسل، وآخرها تهديدًا لهؤلاء الكاذبين الذين يزعمون أنهم مستقرون على أديانهم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{والله سميع عليم} أي سميع لما يقوله الخلق، عليم بما بضمرونه.
أو: سميع لما تقوله امرأة عمران، عليم بما تقصد.
أو: سميع لما تقوله الذرية، عليم بما تضمره.
ثلاثة أقوال.
وقال الزمخشرى: عليم بمن يصلح للاصطفاء، أو: يعلم أن بعضهم من بعض في الدين. انتهى.
والذي يظهر أن ختم هذه الآية بقوله: {والله سميع عليم} مناسب لقوله: {آل إبراهيم وآل عمران} لأن إبراهيم عليه السلام دعا لآله في قوله: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع} بقوله: {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات} وحمد ربه تعالى فقال: {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق} وقال مخبرًا عن ربه: {إن ربي لسميع الدعاء} ثم دعا ربه بأن يجعله مقيم الصلاة وذريته، وقال حين بنى هو وإسماعيل الكعبة {ربنا تقبل منا} إلى سائر ما دعا به حتى قوله: {وابعث فيهم رسولًا منهم يتلو عليهم آياتك} ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا دعوة إبراهيم» فلما تقدمت من إبراهيم تضرعات وأدعية لربه تعالى في آله وذريته، ناسب أن يختم بقوله: {والله سميع عليم} وكذلك آل عمران، دعت امرأة عمران بقبول ما كانت نذرته لله تعالى، فناسب أيضا ذكر الوصفين، ولذلك حين ذكرت النذر ودعت بتقبله، أخبرت عن ربها بأنه {السميع العليم} أي: السميع لدعائها، العليم بصدق نيتها بنذرها ما في بطنها الله تعالى. اهـ.

.قال القشيري:

اتفق آدم وذريته في الطينة، وإنما الخصوصية بالاصطفاء الذي هو من قِبَلِه، لا بالنَّسَب ولا بالسبب. اهـ.

.قال ابن عجيبة:

إنما اصطفى الحق تعالى هؤلاء الرسل؛ لكونهم قد أظهروا الدين بعد انطماس أنواره، وجددوه بعد خمود أسراره، هم أئمة الهدى ومقتبس أنوار الاقتداء، فكل من كان على قدمهم من هذه الأمة المحمدية، بحيث يجدد للناس دينهم، ويُبين للناس معالم الطريق وطريق السلوك إلى عين التحقيق، فهو ممن اصطفاه الله على عالمي زمانه. اهـ.

.قال ابن كثير:

يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض، فاصطفى آدم، عليه السلام، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه الجنة ثم أهبطه منها، لما له في ذلك من الحكمة.
واصطفى نوحا، عليه السلام، وجعله أول رسول بعثه إلى أهل الأرض، لما عبد الناس الأوثان، وأشركوا في دين الله ما لم ينزل به سلطانا، وانتقم له لما طالت مدته بين ظَهْرَاني قومه، يدعوهم إلى الله ليلا ونهارًا، سرا وجهارًا، فلم يزدهم ذلك إلا فرارًا، فدعا عليهم، فأغرقهم الله عن آخرهم، ولم يَنْجُ منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به.
واصطفى آل إبراهيم، ومنهم: سيد البشر وخاتم الأنبياء على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم، وآل عمران، والمراد بعمران هذا: هو والد مريم بنت عمران، أم عيسى ابن مريم، عليهم السلام. قال محمد بن إسحاق بن يَسار رحمه الله: هو عمران بن ياشم بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن أحريق بن يوثم بن عزاريا ابن أمصيا بن ياوش بن أجريهو بن يازم بن يهفاشاط بن إنشا بن أبيان بن رخيعم بن سليمان بن داود، عليهما السلام. فعيسى، عليه السلام، من ذرية إبراهيم. اهـ.

.قال الثعالبي:

قوله تعالى: {إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحًا} الآية: لما مضى صدْرٌ مِنْ مُحَاجَّةِ نصارى نَجْرَانَ، والردُّ عليهم وبيانُ فسادِ ما هُمْ عليه، جاءَتْ هذه الآياتُ مُعْلِمَةً بصورةِ الأمر الذي قد ضَلُّوا فيه، ومُنْبِئَةً عن حقيقته، كيف كانَتْ، فبدأ تعالى بذكْرِ فضْل آدم ومَنْ ذُكِرَ بعده، ثم خَصَّ امرأة عِمْرَانَ بالذكْرِ؛ لأنَّ القصْدَ وصْفُ قصَّة القَوْم إِلى أنْ يبيِّن أمر عيسى عليه السلام، وكيف كان، وانصرف نُوحٌ، مع عُجْمَتِهِ وتعريفِهِ؛ لخفَّة الاِسم؛ كَهُودٍ وَلُوطٍ، قال الفَخْرُ هنا: اعلم أنَّ المخلوقاتِ على قسمَيْنِ: مكلَّفٍ، وغيْرِ مكلَّفٍ، واتفقوا على أنَّ المكلَّف أفْضَلُ من غير المكلَّفِ، واتفقوا على أنَّ أصنافَ المكلَّفين أربعةٌ: الملائكةُ، والإِنْسُ، والْجِنُّ، والشَّيَاطِين.
ت: تأمَّلْه جَعَلَ الشياطين قسيمًا للجِنِّ. اهـ.
والآلُ؛ في اللغة: الأهل، والقَرَابَة، ويقال للأَتْبَاعِ، وأهل الطَّاعة: آل، والآلُ؛ في الآيةِ: يحتملُ الوجهَيْنِ، فَإِنْ أُريدَ بالآلِ: القَرَابَةُ، فالتقديرُ أنَّ الله اصطفى هؤلاءِ على عَالِمِي زمانِهِمْ، أو على العَالَمِينَ جميعًا؛ بأنْ يقدَّر نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم من آل إِبراهيم، وإِن أُرِيدَ بالآلِ: الأَتْبَاعُ، فيستقيمُ دُخُول أمَّة نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم في الآلِ؛ لأنها على ملَّةِ إِبراهيم.
وقوله تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ}، أي: متشابهينَ في الدِّين، والحالِ، وعِمْرَانُ هو رجلٌ من بني إسرائيل، وامرأة عِمْرَانَ اسمها حَنَّةُ. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قال الزجاج: ومعنى اصطفاهم في اللغة: اختارهم، فجعلهم صفوة خلقه، وهذا تمثيل بما يرى، لأن العرب تمثل المعلوم بالشيء المرئي، فاذا سمع السامع ذلك المعلوم كان عنده بمنزلة ما يشاهد عيانًا، فنحن نُعاين الشيء الصافي أنه النقي من الكدر، فكذلك صفوة الله من خلقه.
وفيه ثلاث لغات: صَفوة، وصِفوة، وصُفوة، وأما آدم فعربي، وقد ذكرنا اشتقاقه في البقرة وأما نوح، فأعجمي مُعربّ، قال أبو سليمان الدمشقي: اسم نوح: السكن، وإنما سمي نوحًا لكثرة نوحه.
وفي سبب نوحه خمسة أقوال.
أحدها: أنه كان ينوح على نفسه، قاله يزيد الرقاشي، والثاني: أنه كان ينوح لمعاصي أهله، وقومه.
والثالث: لمراجعته ربه في ولده.
والرابع: لدعائه على قومه بالهلاك.
والخامس: أنه مر بكلب مجذوم، فقال: اخسأ يا قبيح، فأوحى الله إليه: أعِبتني يا نوح، أم عبت الكلب؟
وفي آل إبراهيم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه من كان على دينه، قاله ابن عباس، والحسن.
والثاني: أنهم إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، قاله مقاتل.
والثالث: أن المراد {آل إبراهيم} هو نفسه، كقوله: {وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون} [البقرة: 248]، ذكره بعض أهل التفسير.
وفي عمران قولان:
أحدهما: أنه والد مريم، قاله الحسن، ووهب.
والثاني: أنه والد موسى، وهارون، قاله مقاتل.
وفي آله ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه عيسى عليه السلام، قاله الحسن.
والثاني: أن آله موسى وهارون، قاله مقاتل.
والثالث: أن المراد بآله نفسه، ذكره بعض المفسرين، وإنما خصّ هؤلاء بالذكر، لأن الأنبياء كلهم من نسلهم.
وفي معنى اصطفاء هؤلاء المذكورين ثلاثة أقوال.
أحدها: أن المراد اصطفى دينهم على سائر الأديان، قاله ابن عباس، واختاره الفراء، والدمشقي.
والثاني: اصطفاهم بالنبوة، قاله الحسن، ومجاهد، ومقاتل.
والثالث: اصطفاهم بتفضيلهم في الأمور التي ميزهم بها على أهل زمانهم.
والمراد بـ {العالمين}: عالمو زمانهم، كما ذكرنا في البقرة. اهـ.